هل أكل لحم الجمل ينقض الوضوء؟ وما هي مذاهب العلماء؟
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ... وبعد ;
أكل لحم الجمل ينقض الوضوء، هذا هو الصحيح لما ثبت في الحديث الصحيح من حديث جابر بن سمرة عند مسلم(1)، وحديث البراء بن عازب عند أحمد وأبي داود(2)، أنه عليه الصلاة والسلام سئل قال: «أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: توضئوا من لحوم الإبل، ولا توضئوا من لحوم الغنم» .
وهما حديثان صحيحان وإن خالف في ذلك الجمهور من المالكية والشافعية والأحناف، الجمهور يقولون: "لا ينقض"، والصواب ينقض، ولذا بعض الأئمة من هذه المذاهب أخذوا بالقول الآخر وهو قول أحمد رحمه الله وأنه ناقض، لأنه حديث صريح، ولهذا اختاره ابن المنذر، وإسحاق، والبيهقي من الشافعية لأن الحديث صريح وواضح في هذا، أما ما نقلوا عن أبي بكر وعمر وعثمان، وبعضهم حكا عن الخلفاء الراشدين أنهم لم يكونوا يتوضئون من لحوم الإبل، فهذا لم يثبت عنهم، إنما الذي ثبت عنهم أنهم لم يكونوا يتوضئون من ما مست النار، فظن بعضهم أن هذا يدخل في لحوم الإبل وهم لم يريدوا هذا، إنما ما مست النار من غير لحوم الإبل لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «توضئوا من ما مست النار»(3) ثم أكل شيئًا مسته النار ولم يتوضأ(4)، فما مسته النار إما أن يكون من لحوم الإبل فهذا يجب الوضوء منه سواء كان نيئًا أو مطبوخًا، وبعضهم فرق بين النيئ والمطبوخ، أوجبه في النيئ والمطبوخ، وهذا قول ضعيف ، لأنه معلوم قوله: «توضئوا من لحوم الإبل»(5) أنه من المطبوخ، بل لو عكس الأمر ربما كان أقرب لأنه لا يؤكل إلا مطبوخًا، يعني في الغالب، ولما فيه من الضرر لأكله نيئًا فلهذا الصواب وجوب الوضوء منه، وهو قول أحمد رحمه الله، والجمهور يقولون: لا ينقض الوضوء، واستدلوا بحديث كان آخر الأمرين من رسول الله «ترك الوضوء من ما مسته النار» حديث جابر(6)، وهذا الحديث مختصر في الحقيقة، والاستدلال به فيه غفلة ، الاستدلال بهذا الحديث أن الوضوء من لحوم الإبل ليس بواجب لأن آخر ماكان من رسول الله «ترك الوضوء من ما مسته النار»؛ فالمعنى من ما مست النار من غير لحوم الإبل؛لأن هذا عام وذاك خاص الشيء الثاني أن هذا الحديث موجود عند النسائي وغيره وكذلك عند أبي داود، وفيه أنه عليه الصلاة والسلام قدم له لحم فأكل منه، فتوضأ وصلى، ثم حضرت العصر فأوتي بعلالة الشاة- يعني بقية الشاة- فأكل منه ولم يتوضأ.
فجاء الرواة لحديث جابر هذا فرواه مختصرا فقال: «كان آخر الأمرين من رسول الله ترك الوضوء من ما مسته النار»؛(7) فأوهم أن آخر الأمرين يعني أنه في آخر أمره من ما مسته النار عمومًا، وإلا فالحديث في قضية خاصة وفي واقعة خاصة، وأنه توضأ عليه الصلاة والسلام، وأكل لحمًا فتوضأ بعده وصلى، ثم لما حضرت العصر تناول بقيته ولم يتوضأ، فاختصاره أوهم مثل هذا، ولهذا كان الصواب بوجوب الوضوء من لحوم الإبل، واستحباب الوضوء من ما مسته النار مما سوى لحوم الإبل لحديث زيد بن ثابت(8) ، وأبي هريرة(9) ، وعائشة عند مسلم(10) ، وحديث أم حبيبة عند النسائي «توضئوا من ما مسته النار».(11).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم برقم (360).
(2) أخرجه أبو داود برقم (184).
(3) أخرجه مسلم (351).
(4) أخرجه البخاري (207)، ومسلم (354).
(5) أخرجه مسلم برقم (360).
(6) أخرجه داود (192) والترمذي (80) والنسائي (185)، وصححه الألباني. وقد ذهب بعض أهل العلم كأبي داود وأبي حاتم الرازي وابن حبان وابن تيمية وابن القيم وغيرهم ، إلى أن شعيب بن أبي حمزة الراوي عن ابن المنكدر عند النسائي اختصر الحديث، فأخطأ فيه، فأوقع هذا الاختصار المخل للحديث في لبس، وأن الحديث عند من بسطه لا يدل على ما ذهب إليه جمهور أهل العلم؛ وإنما فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكل لحمًا عند امرأة من الأنصار، ثم قام إلى صلاة الظهر، فتوضأ، وصلى، ثم عاد مرة أخرى، فقدمت له بقية اللحم، فأكل، ثم قام، وصلى العصر، ولم يتوضأ، فأراد شعيب أن يختصره، فقال: كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، والمقصود بالأمرين أي في شأن هذه القصة، وليس في الأمر العام الشرعي، على أن الحديث له علة أخرى، فقد قيل: إن محمد بن المنكدر لم يسمعه من جابر؛ وإنما سمعه من عبدالله بن محمد بن عقيل، وأكثر أهل العلم على ضعفه.
قال الحافظ البخاري في التاريخ الصغير (2/250): وقال بعضهم: عن ابن المنكدر: سمعت جابرًا، ولا يصح. اهـ
وقد أخرج أحمد (3/307) ثنا سفيان، سمعت ابن المنكدر غير مرة يقول: عن جابر، وكأني سمعته مرة يقول: أخبرني من سمع جابرًا، ظننته سمعه من ابن عقيل.
(7) ) أخرجه داود (192) والترمذي (80) والنسائي (185)، وصححه الألباني.
(8) أخرجه مسلم (351).
(9) أخرجه مسلم (354).
(10) أخرجه مسلم (353).
(11) أخرجه داود (195) والنسائي (180) وأحمد في المسند (26232).