حكم الجلوس للتعزية؟
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ... وبعد ;
الجلوس للتعزية لا بأس به على الصحيح، وجاءت أدلة تدل على ذلك، منها: أنه يشرع تعزية المصاب بوفاة قريب، والد أو والدة أو ولد أو أي قريب ونحو ذلك فإنه يشرع التعزية له، فإذا كان يشرع التعزية له فالسبيل إليه أو الطريق إليه مشروع مثل زيارة المريض وعيادة المريض، لما كانت مشروعة فإنه يقصد ويزار المريض ويواسى، كذلك أيضًا من يزار لأجل المصاب فإنه يواسى ويعزى بموت قريبه مثلًا، وثبت في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام أرسل لابنته لما أرسلت له أن ابنًا لها في النزع، وفيه أنه ذهب إليها عليه الصلاة والسلام ومعه بعض أصحابه،(1) هذا واضح أنه قصد إليها عليه الصلاة والسلام، ويكفي هذا في الدلالة حينما قصد إليها، وعزاها وإلا فإنها لا تقبل عزاءه في بيتها أو أنه تغلق بابها أو نحو ذلك، لا، فالنبي ذهب إليها عليه الصلاة والسلام.كذلك ثبت في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنه إذا توفي أحدٌ من قراباتها اجتمع لذلك النساء ثم تفرقن فلم يبقى إلا خاصتها أو قرابتها (2)، الشاهد أن فيه اجتمع النساء لذلك، ثم تفرقن، وإذا كان هذا في حق النساء والنساء يحصل لهن من الجزع ما يحصل فالرجال من بابٍ أولى أنه ذلك،لأن المحظور في الاجتماعات في باب التعزية
هو ما يحصل من النياحة والصراخ والتسخط ونحو ذلك، وهذا في النساء أكثر، فإذا كان هذا في النساء لا بأس به فالرجال من باب أولى، لما يحصل فيه من المواساة والتصبير للمصاب، ونحو ذلك، هذا لا بأس به، إنما المحظور هو أن يترتب على ذلك أمور من التسخط والنياحة. وعليه يحمل الحديث الوارد إن صح، حديث جرير بن عبد الله البجلي: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة. الحديث رواه أحمد وابن ماجة من رواية هشيم بن بشير عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير، ورواه الإمام أحمد رحمه الله عن نصر بن باب عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم، ونصر بن باب هذا ضعيف جدًا ومنهم من اتهمه حتى قيل كيف يروي عنه الإمام أحمد رحمه الله، والإمام أحمد رحمه الله كان يعتذر عنه ويقول إنه أخذ عليه إنه روى عن فلان، ونحو ذلك، وهذا الخبر أيضًا جاء عن طريق هشيم بن بشير، وهشيم لم يصرح، ثم جاء عن الإمام أحمد رحمه الله أنه أنكر هذا الخبر وقال أنه لا أصل له، وجاء في رواية أخرى من طريقه أنه قال ما يدل على أنه لم يسمعه هشيم رحمه الله،(3) فالحديث في موضع نظر من ثبوته.لكن لو قلت لا يمكن أن يحمل على موافقة، يحمل على الوجه الذي يكون فيه نياحة: كنا نعد اجتماعنا عند أهل الميت وصنعة الطعام. الاجتماع عند الميت، لأن في الغالب حينما يجتمعون إلى أهل الميت وصنعة الطعام قد يفهم منه أن صنعة الطعام من أهل الميت، وهذا منهي عنه، النبي عليه الصلاة والسلام قال:
"اصنعوا لأهل جعفر طعامًا"(4)، لاجتماعهم، لأنه قال اجتماع أهل الميت وصنعة الطعام. هذا يفهم منه أنهم هم الذي يصنعون الطعام، وهم مشغولون بما هم فيه، فكيف يشغلون بالاجتماع إليهم مع شغلهم بصنعة الطعام، ولهذا قال من النية على هذا الوجه، يعني اجتماع الأمرين. أما إذا كان اجتماع إلى أهل الميت بمعنى أنه يأتي إليه ويواسيه ثم أيضًا يعينه بإحضار الطعام هذا لا بأس به، ويحتمل أيضًا الاجتماع، أنهم يجتمعون، بمعنى أنه يستمر الاجتماع، فهذا يكون فيه مضايقة لهم وربما يحصل نياحة من كثرة الاجتماع لأهل الميت، أما إذا كان كما هو المعتاد في الغالب في كثيرٍ من الأماكن التي يعزى فيها، يأتي قوم ويخرج قوم، هذا يأتي يعزي ثم يسلم ويخرج ثم يأتي غيرهم، إلا من كان من خاصتهم وأهلهم فهذا يجلس، كما في حديث عائشة رضي الله عنها، ولهذا قالت فتفرقن فلم يبقى إلا أهلها أو نساؤها ونحو ذلك.كذلك أيضًا من كان عند أهل الميت من قرابتهم هذا لا بأس أن يبقى، فعلى هذا يمكن أن يحمل أيضًا على الاجتماع الذي يحصل فيه ربما مضايقة بكثرة الناس، وأيضًا قد يهيج الأحزان، خاصة من النساء، ولهذا جاءت مشروعية تعزية المصاب وهذا يكون في القصد إليه وتعزيته لأجل أن يسليه مما حصل عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)عَنْ أُسَامَةَ، قَال: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ، وَعِنْدَهُ سَعْدٌ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذٌ، أَنَّ ابْنَهَا يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا: "لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلِلَّهِ مَا أَعْطَى، كُلٌّ بِأَجَلٍ، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ". أخرجه البخاري (1284) ، ومسلم (923).
(2)حديث عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ ، ثُمَّ تَفَرَّقْنَ إِلَّا أَهْلَهَا وَخَاصَّتَهَا ، أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ ، ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ فَصُبَّتْ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهَا ، ثُمَّ قَالَتْ : كُلْنَ مِنْهَا ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( التَّلْبِينَةُ مُجِمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ ، تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ). أخرجه البخاري (5417) ، ومسلم (3216).
(3) أثر جرير بن عبد الله قَالَ : ( كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إِلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ ، وَصَنِيعَةَ الطَّعَامِ بَعْدَ دَفْنِهِ : مِنْ النِّيَاحَةِ ).
أخرجه أحمد (6866) ، وابن ماجه (1612). قال أبو داود : " ذَكَرْتُ لِأَحْمَدَ حَدِيثَ هُشَيْمٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ، عَنْ قَيْسٍ ، عَنْ جَرِيرٍ: " كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصَنْعَةَ الطَّعَامِ لَهُمْ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ ".قال : زعموا أنه سمعه من شريك ، قَالَ أَحْمَدُ: وَمَا أُرَى لِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلاً".
(4) أخرجه أبو داود (3132) والترمذي: (998) ، وابن ماجه: (1610). وأحمد (1/205)
و الدارقطني، 2/ 78، 79 ح 11، والبيهقي 4/ 61، عبد الرزاق 3/ 550، و الحاكم 1/ 372