يقول السائل : ما الحكم في الحلف بالكذب لأني كنت خائف من الشخص الذي حلفت له كذب؟
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله … وبعد ;
الحلف كاذبًا لا يجوز وهو اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار، أما من أجبر على الحلف كاذبًا فهذا لا شيء عليه أو ألجأ للتخلص من ظالم فكذلك لا شيء عليه، إنما ينبغي للإنسان أن يجتهد في التورية فلو أنك عرض لك أمر تحلف عليه وإلا قد يصيبك ضرر أو يصيب أخاك أو من معك من رفقة أو أهلك أو أولادك فإنك توري مثل لو سألت هل معك شيء من فلان هل معك مال يريد أن يسرقك فعليك أن توري يعني لا تحلف حلف مطلق أنه ليس عندك مال وما أشبه ذلك وإنما تقول والله ليس عندي مال يعني في يدي أو ليس أمامي أو في جيبي مثلاً توري وهذه لا بأس بالتورية وكما في الأثر المرفوع عن عمران بن حصين وجاء مرفوع وموقوف ( إن في المعاريض مندوح عن الكذب) يعني سعة.() وقال محمد بن سيرين: إن المعاريض أوسع من أن يكذب يعني يستطيع أن يستخدم المعاريض ومن المشهور في هذا ما نقل عن الإمام أحمد رحمه الله أن رجلاً طرق الباب على بيت مهنأ بن عبد الحميد والإمام أحمد عنده وكان مهنأ رحمه الله لا يريد أن يلتقي هذا الرجل لسبب والإمام أحمد يعلم ذلك، فخرج الإمام أحمد للرجل فسأل عن مهنأ أين هو مهنأ موجود عنده فقال الإمام أحمد: مهنأ ليس ها هنا (يشير إلى يده)وماذا يصنع مهنأ ها هنا،ما قصده؟ ليس في كفه، الذي يسمعه يفهم أنه ليس موجودًا.فالمعاريض فيها سعة، والإنسان قد يحتاج أحيانًا إلى المعاريض لو جاء إنسان يسأل عن شخص وهو لا يريد أن يقابله ربما يشق عليه ذلك وربما يشغله عن مصالح فلا بأس أن يعرض أولاده وأهله ونحو ذلك، فإذا كان على هذه الصفة فلا بأس من ذلك، ومن ذلك أيضًا الإخبار على وجه الكذب وإذا لم ينكر العبد فلا بأس والصحيح أن الكذب أيضًا يجوز بغير الأمور الثلاثة التي وردت في أحاديث أم كلثوم(2)، وثبت في حديث الحجاج بن ِعلاط الصحيح عند أحمد وهو حديث طويل أنه أسلم زمن خيبر ولقي النبي عليه الصلاة والسلام وهو صاحب تجارة وكان النبي قد فتح خيبر واصطفى صفية بنت حيي وأظهره الله على اليهود.فجاء فأسلم رضي الله عنه وكان من تجار مكة ومن أهل مكة ومعروف في مكة بتجارته فقال يا رسول الله: إني لي مالاً وأهلاً فأذن لي أن أقول، يعني لو علمت كفار قريش وهذا في فترة الصلح ما بين صلح الحديبية وفتح مكة العام السابع يعني لو علموا بإسلامه ربما آذوه ومنعوه ماله فجاء إلى مكة ودخلها فقال لأهل مكة لكبار أهل مكة، إن محمدًا قد أسر وأخذ أصحابه وأنه أسرهم اليهود وأريد أن أخذ مالي حتى أدرك أصحاب محمد فأشتري منهم وقد سبي نسائه فصدقوه في ذلك فخلص ماله وديونه وعجلوا بها لما أخبرهم بهذا الخبر وقال لزوجته هذا الأمر ولم يخبرها لأنها لم تكن أسلمت قال هيئي لي فرسي ونحو ذلك واجمعي مالي فجمعوا ماله وهيئوه في وقت يسير فلما سمع العباس بذلك اشتد عليه الأمر وهو يعلم أن الله ناصر رسوله وكان لم يهاجر في ذلك الوقت فسمع واشتد عليه حتى أنه كاد يسقط ولم تحمله رجلاه من هذا الخبر الذي وقع عليه كالصاعقة ثم أرسل إليه قال: ويلك ما عند الله خير ما الأمر؟ يعني هو شك في الأمر.فقال لغلامه: قل له يخلي لي فكان ذلك فالأمر على ما يحب، ثم جاءه غلامه مملوك فقال له فلما رآه أعتقه مباشرة، ثم جائه الحجاج بن عياض قال: ما الأمر فما عند الله خير مما تقول، قال: الأمر على ما تحب قد اصطفى النبي صفية وقد أسرهم وأخذ أموالهم لكني أسلمت وأردت أن آخذ مالي وأعلم أنهم لن يعطوني مالي حتى أقول ما أقول فاكتم علي ثلاثًا ثم أخبر بعد ذلك.اكتم خبري ثلاثة أيام، فإذا مضى ثلاثة أيام فأخبرهم بما قلت لك حتى تعود عليهم الكآبة والحزن وكان كفار قريش قد أظهروا الفرح والسرور وكانوا قد آتوا العباس وقالوا له: لا يسوئك الله خبر ابن أخيك، قال: لا يسوئني الله، فخرج الحجاج مسرعًا إلى جهة النبي على المدينة فلما مضت الثلاث جاء العباس ولبس ردائه وتعطر وتطيب ثم جاء إلى جمع قريش فلما رآوه قالوا له وظنوا أنه يتجلد، وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع. قالوا: لا يسوئك الله قال: والله ما عند الله خير وقد اصطفى النبي صفية وأسر اليهود وأخذ أموالهم قالوا كيف قلت والله إنك لصادق ظنوه، ثم قال أخبرني الحجاج بذلك، وأين هو؟ فإذا هو قد هرب وأدرك النبي عليه الصلاة والسلام،(3) فرد الله الكآبة والحزن الذي كان على المؤمنين في مكة على كفار قريش فهذا به إلجاء من احتاج إلى يمين، فإذا كان إلجاء إنسان لماله فما كان مثلاً في عرضه في دمه فهو من باب أولى لأنها حاجة والضرورة لها أحوالها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (857) ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ قوله،وابن أبي شيبة في المصنف (26096) قوله ، والقضاعي في مسند الشهاب (1011) مرفوعاً،والبيهقي (20842) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ , أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً , عَنِ الْكَذِبِ ". هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مَوْقُوفًا، قلت وهو كما قال البيهقي الصحيح موقوفاً.
(2)حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِي خَيْرًا) رواه مسلم (2605(.
(3) أخرجه أحمد في المسند (12409)، وعبد الرزاق في المصنف (9771) و"صحيح ابن حبان" (1562).