يقول السائل : هل يجوز التدرج في تطبيق الشريعة؟
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله … وبعد ;
هذه مسألة كبيرة، ومسألة مهمة، وتحتاج إلى دراسة وعناية، لا يمكن إجمال الكلام فيها؛ لأنها مسألة مهمة، وتحتاج إلى تحرير، وتكلم الناس فيها كثيرًا، لكن مما يقال أن الشريعة مبنية على تحصيل المصالح، ودرء المفاسد، وعودًا على بادئ، أقول إن هذه المسألة تحتاج إلى تحرير ودراسة من أهل العلم، وتقرير لها، وبالجملة من كان حاكمًا بشرع الله سبحانه وتعالى في بلدٍ من البلدان، فإن عليه أن يجتهد في تطبيق شرع الله، إن كان قادرًا عليه، أن يجتهد في تطبيق شرع الله سبحانه وتعالى، هذا هو الواجب، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}([1]). وقال عليه الصلاة والسلام: «إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم».(2) وقاعدة الشريعة على الاستطاعة في مثل هذه الأمور، هذا إذا كان في الأمور اليسيرة، الأمور القليلة، الأمور الخاصة، فالأمر في الأمور العظام، والأمور الكبار إذا أمكن تحصيل المصالح فيها كان أهم وأعظم، مادام أن المصلحة ظاهرة، والمفسدة مندفعة، فكل إمام وكل والٍ وكل أمير وصاحب ولاية عليه أن يسعى في إصلاح الرعية.
قال عليه الصلاة والسلام: «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته»(3). وجاءت الأخبار في هذا كالمطر لكثرتها، وأنه يجتهد في أن ينصح لهم، وأن يجتهد في أن يكونوا أقرب ما يكونوا إلى السنة، فيدلهم عليها، فلا يموت غاشًا لهم، فيحرم من دخول الجنة، أو يحرم من أن يكون معهم.
فقال كما في قوله عليه الصلاة والسلام: «ما من راعٍ يسترعيه الله رعيه يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة»(4). متفق عليه، وفي لفظ عند مسلم «إلا لم يدخل معهم الجنة»(5). فسر هذه الروايات بأنه لم يدخل معهم الجنة، وليس المعنى أنه لا يدخلها مطلقًا، لكن بين أن هذه عقوبته الخاصة. فالأمر في هذه المسألة أمر شديد، وأمرٌ مهم، ولا يمكن البت فيه بكلام يجمل، إلا أنه كما تقدم من ابتلي بولاية ولم يمكنه أن يقيم شرع الله على الوجه المطلوب، فالمقصود هو تحصيل المصالح قدر الإمكان، ودفع المفاسد قدر الإمكان، والشريعة مبنيةٌ على هذا الأصل العظيم، كل ما كان أقرب إلى الخير. والنبي عليه الصلاة والسلام لما أسلم النجاشي، لم ينقل أنه عليه الصلاة والسلام أمره بتطبيق الحدود، وما أشبه ذلك، بل قال بعض أهل العلم أنه كان يصلي، ولم ينقل أنه حج البيت إلى غير ذلك من الأمور التي تدل على أنه يجتهد الإنسان في إصلاح الناس بقدر ما يكون أقرب إلى الخير. وهناك دلائل تدل على أن الحدود أحيانًا قد تؤخر، أحيانًا قد يحصل فيها اجتهاد، حينما يكون فيها ضرر، مثل تأخير الحد على الحامل، كذلك المريض، بل إن المريض جاء ما يدل على أنه لو خُشي الضرر عليه بإقامة الحد عليه فإنه ثبت في الحديث الصحيح المروي من طرق، من حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف(6)،
ومن حديث سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ من طرقٍ عدة، منها عند ابن ماجة وأحمد وغيرهما، «أن رجلًا خبث بجاريةٍ». أي وقع عليها، فقال عليه الصلاة والسلام أمر بجلده، «فقال: " اضْرِبُوهُ حَدَّهُ " ، قالوا يا رسول الله إِنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ ذَلِكَ , إِنْ ضَرَبْنَاهُ مِائَةً قَتَلْنَاهُ ». يعني أنه ضعيفٌ مريضٌ، لا يتحمل، قال عليه الصلاة والسلام: «خذوا شمراخًا به مائة عود فاضربوه به»(7).أمر أن يضرب بشمراخ، وهو ما يكون في بعض الزراعات التي فيها الشماريخ، العود الذي فيها الشماريخ، فأمر أن يضرب به، وبعض أهل العلم قال هل يتحقق أن يصيبه مائة، أو أنه يضرب ضربة واحدة ثم قد يصيبه الجميع، وهذا هو الظاهر، أنه لا يصيبه مائة شمراخ، لأن هذه الأعواد متراكبة بعضها فوق بعض، المقصود أنه عليه الصلاة والسلام جعل حده هو هذا، وهذا يبين أن هذه الأمور مبنية على تحصيل المصالح، ودرء المفاسد.
وكان الرجل إذا أسلم يعتني به الصحابة ويعلمونه، كان ربما يكون عنده تقصير ونقص، وبوب صاحب المنتقى رحمه الله، باب الإسلام على شرط، وذكر صاحب المغني في كتاب الجهاد شيئًا من هذا الكلام، وذكروا مسائل من هذا الجنس، تبين أنه ينبغي الرفق حينما يراد تطبيق شرع الله، سواءً عمومًا أو خصوصًا. وذكر أبو العباس رحمه الله كلامًا عظيمًا في كتابه الفتاوى، في القسم الذي عنون بالأصول، يراجع كلامه رحمه الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) سورة: التغابن ، الآية (16).
(2) أخرجه البخاري (6858) ، ومسلم (1337)
(3) أخرجه البخاري (2409) ، ومسلم (1830) .
(4) أخرجه البخاري (7151) ، ومسلم (143).
(5) أخرجه مسلم (142).
(6) أخرجه النسائي في "الكبرى" (7308) ، والطبراني في "الكبير" (5587) والدارقطني 3/100 من طريق عبد الرحمن ابن أبي الزناد، كلاهما عن أبي الزناد، عن أبي أمامة، عن أبيه سهل بن حنيف، مع اختلاف في وصله وإرساله والمرسل أصح.
(7)أخرجه أحمد (5/222) ، وابن ماجه (2574) ، والنسائي في "الكبرى" (4/313) ، والبيهقي (8/230) . وانظر معناه في سنن أبي داود (4472) لكن اسم الصحابي مبهم.