لقد اتفقت مع صاحب العمل على التواجد لمدة تسعة ساعات يوميًا، وبعد نقل كفالتي عليه، أرغمني على دوام أحد عشرة ساعة في اليوم، فرفضت ذلك بناءً على الاتفاق الذي بيننا، وطلبت منه تنازلًا، أو حتى الخروج النهائي، فما حكم استغلال هذه الساعات الزائدة لصالحي الشخصي، من تصفح أو قراءة أو غيرها، أحسن الله إليكم، وما هو توجيهكم لي ولصحاب العمل، أفيدونا بارك الله فيكم.
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ... وبعد ;
فيجب على المسلم أن يلتزم بالعقد الذي بينه وبين من عاقده، سواءٌ كان الذي عاقده مسلمًا أو غير مسلم، فإذا كان العقد الذي أجراه بينه وبين أخٍ مسلم، كان أشد في باب تأكيد الالتزام، لأن للمسلم حقوقًا زائدة على غيره، فتأكد هذا الحق بهذا العقد الذي بينهما.
والمسلمون على شروطهم، والوفاء بالعقود والعهود واجب، وخاصة فيما يتعلق بحقوق التي تكون بينه وبين من يعامله في تجارةٍ، أو شركةٍ، أو نحو ذلك، أو عمل كونه عاملًا عنده، ومن أحق الشروط أن يوفى بها، حقوق الأجراء والعمال، الذين ربما يضعفون أمام صاحب العمل، فلا يجد بدًا من أن يسلم بالأمر الواقع، لضرورته، أو على الأقل حاجته.
وما جاء في هذا السؤال من كون صاحب العمل يزيد عليه ساعات ليست بينهما، فإن هذا ظلم، وتعدي، ولا يجوز، وهذا ضد الإحسان المطلوب لمن يعمل عند، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: « إِنَّ إِخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ »([1]).
وهذا في الحقيقة وإن كان فيمن يكون عند الإنسان مملوكًا له، فنفعه أبلغ، يعني نفعه في حق سيده أبلغ من النفع الذي تستحقه على الأجير، لأنه حر فإذا كان المملوك يشرع لسيده أن يحسن إليه، وأن يخفف عنه من العمل، مع أنه يملك رقبته بالبيع والشراء.
فالأمر أشد وأعظم في الأجير، أو العامل الذي ليس بينك وبينه إلا اتفاق وعقد هو عقده برضاه، لم يكن إلا عن اختياره، فهذا أولى بالوفاء، وألزم في أن تلتزم به، فإذا كان هذا كما تقدم، في الحقوق الواجبة للسيد على مملوكه، أنه لا يكلفه ما يغلبه، ليس من باب الظلم، لكن ربما يغلبه، يعني يؤديه على مشقة، فالأمر في الأجير والعامل أبلغ وأشد.
فعلى هذا نقول: لا يلزمك أن تعمل هذا العمل إلا إذا كان عن طيب نفسٍ منك، أنت بدأت به بدون إحراج، وبدون امتناعٍ منك، ثم تجبر على ذلك، ثم في هذه الحال، إذا أجبرت فأنت بالخيار، لكن إذا ترتب عليك ضرر في ترك العمل، لأنك على كفالة ونحو ذلك ، فلا بأس أن تحتال حيلًة تزيل بها وترفع بها الظلم عن نفسك، لأن هذا حقٌ لك، يجب تحصيله، وظلم عليك، عليك أن تدفعه، ويجب على صاحب العمل أن يرفعه ابتداءً، هذا هو الواجب عليه.
ثم أيضًا هنا مسألة يسميها العلماء مسألة الظفر بالحق، أي من كان له على غيره حقٌ، وهذا ظالم أو جاحد، وليس عندك بينة، وصاحب العمل أو صاحب الشركة، قد يكون قوله مقدم، وقد يكون قوله هو المأخوذ به، والأجير لا يستطيع رفع الشكاية ونحو ذلك، من جهة أنه قد ينكر صاحب العمل، فإن أمكنك أن تأخذ حقك من هذا العمل بقدر ما عملت، يسميه العلماء مسألة الظفر بالحق ، وفيها تفصيلٌ طويل لأهل العلم، لكن من حيث الجملة يجوز أخذه، إلا إذا ترتب على ذلك أن تتهم بالخيانة، فأقول الواجب على صاحب الشركة أن يتق الله عز وجل، وأن يرفع الظلم عن هذا وعن غيره، وأن يعلم أنه لن يفوت شيء عند الله تعالى، وأن كل شيء مقيد ومكتوب على كل إنسان، وثبت في حديث جيد عند الترمذي «عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَجُلًا قَعَدَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ يُكَذِّبُونَنِي وَيَخُونُونَنِي وَيَعْصُونَنِي، وَأَشْتُمُهُمْ وَأَضْرِبُهُمْ فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟ قَالَ: «يُحْسَبُ مَا خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وَكَذَّبُوكَ وَعِقَابُكَ إِيَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ كَانَ كَفَافًا، لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ كَانَ فَضْلًا لَكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمْ اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الفَضْلُ». قَالَ: فَتَنَحَّى الرَّجُلُ فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَهْتِفُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ {وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ} ([2])»([3]).
{ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}([4])،
وقال سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}([5]). لا يفوته شيء سبحانه، وهذا في الشر الذي يكون في ظلم العبد لنفسه، فما كان من ظلم العبد لغيره كان أعظم، لأن فيه ظلمًا متعديًا، فهو أبلغ في تحصيله، بل المظالم لا تفوت حتى على البهائم، يقتص للبهائم بعضها من البعض. وإن كان هذا لم يثبت له دليل، بل ذكر ذلك بعض العلماء رحمة الله عليهم، والمقصود من شدة الأمر وتهويل أمر الظلم أنهم قالوا حتى إنه يقتص للعود من العود، وللحجر من الحجر، وإن كان هذا لم يثبت في سنة، لكن يدل على أمر الظلم حديث رواه أحمد في المسند «لو بغى جبلٌ على جبل لدك الباغي منهما»([6]). أي في الدنيا، وهذا قد يدل على أن البغي الذي يكون من الجمادات لو فرض أنه واقع، لأنه جاء بـ (لو) فإنه يكون الجزاء في الدنيا والله أعلم.