كيف نرد على من استدل بإسقاط عمر رضي الله تعالى عنه لحد السرقة ومنع سهم المؤلفة قلوبهم على جواز نسخ القرآن والسنة بالمصلحة رداً عقلياً هكذا ، أحسن الله إليكم؟
الحمدلله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ,
عمر رضي الله عنه لم يسقط حد السرقة إنما أخره في وقت آخر ، وعمر رضي الله عنه هو الملهم المسدد ، وهو كغيره من الصحابة إمام عظيم له اجتهادات، وهذا الكلام أنه أسقط حد السرقة كلام باطل، وهو ما جاء من قولهم: أن المصلحة تنسخ القرآن ، كيف تنسخ القرآن ؟ لأن أصل الشريعة القرآن والسنة ، وقد جاءت بالمصالح ودرء المفاسد فالشريعة كلها لتحقيق المصالح ودرء المفاسد ، بل قال بعض العلماء وهو لعله التقي تاج الدين - رحمه الله –إن الشريعة مبنية على قاعدة عظيمة: وهي تحقيق تحصيل المصالح ، وتعطيل المفاسد، وقال السبكي : ولو ضايق مضايق فقال إنها جاءت بتحصيل المصالح فقط ، لأن درء المفاسد لازم من تحقيق المصالح فنقول : إن المقصود هو المصلحة هذا هو المقصود وما فعله عمر - رضي الله عنه - إنما فعله لأجل أن شروط الحد لم تتوفر ليس إسقاطاً لحد السرقة ولا شك أن هذا مصلحة سمه ما شئت ودلت الأدلة على أن بعض النصوص ربما يأتي دليل به تخص وبه يؤخر مثلاً هذا الأمر لأن فعله يترتب عليه مفسدة ونعلم أيضاً أن من أعظم المصالح هو دفع الموت حينما يعرض للإنسان شدة جوع ولا يجد طعاماً حلالاً فتحل له الميتة عند الضرورة فهل يقول قائل إن هذا نسخ ودلت عليه الأدلة من جهة العموم مثلما أن النبي - عليه الصلاة والسلام - في أفعال كثيرة وأحوال كثيرة لم يعاتب بل لم يقم - عليه الصلاة والسلام - بقتل المنافقين بل كانوا في مجلسه وكان - عليه الصلاة والسلام - يتألفهم مع كثرة شرهم وفسادهم لأن المصلحة في ذلك مع أن النصوص دلت على أن فسادهم وضررهم أعظم من فساد الكفار والمشركين، لكنه - عليه الصلاة والسلام - راعى أمر وكان من باب تخصيص النصوص بعضها ببعض، ففعل عمر - رضي الله عنه - إما عمل بنصوص أخرى وأدلة أخرى جاءت بها الشريعة مثلما أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : " لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لهدمت الكعبة وجعلت لها بابين شرقي وغربي "(1) فهذا الواجب هو بناء الكعبة على قواعد إبراهيم ، هذا هو الواجب ومع ذلك لم يفعله النبي - عليه الصلاة والسلام - هل معنى ذلك ترك هذا النص ؟ لا ، هو لم يفعل هذا لأنه يترتب عليه مفسدة والمصلحة لم تتحقق، أو تتحقق لكن بمفسدة عظيمة وهكذا أيضاً فيما يتعلق بفعل عمر - رضي الله عنه - حينما وقع في عام المجاعة ، في عام الرمادة لما اشتد الجوع ببعض الناس كان الواجب على كل من وجد طعاماً أن يطعم المحتاج فحصل لبعضهم أن اشتد بهم الجوع ولم يجد طعاماً فلهذا اضطر إلى السرقة ولما كان مضطراً كان هذا الحلال وهذا الطعام حلالاً له ، لأنه يجب على من علم حاله أن يطعمه، ولهذا أليست للمال حرمة وأنه لا يجوز الاعتداء على المال، والأدلة في هذا متواترة ، وأن حرمة المال من الضروريات التي جاءت بتقييدها الشريعة ، ولو أن قوماً مروا بقوم في البرية ضيوف فأبوا أن يضيفوهم ومنعوهم وليسوا بهم ضرورة ولكنه حق ضيافة يجوز لهم أن يأخذوا منهم حق الضيف ولو قاتلوهم بالقوة كما في الحديث الصحيح عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قالوا : يا رسول الله إنك تبعثنا إلى قوم فلا يقروننا ، قال: إن بعثتكم إلى قوم فأمرك بحق الضيف فكل فإن لم يأمر لكم فخذوا منه حق الضيف الذي ينبغي لكم"(2) يعني بالقوة ، فهذا لا يقال إنه مصادمة بين الأدلة التي فيها صيانة المال ، لا ، دل الدليل على مثل هذا المعنى وهو في مثل هذه الحال كذلك أيضاً في من اضطر إلى طعام فإنه من المال هو في الحقيقة أقل الأحوال إنه شبهة والحدود تدرء بالشبهات، وهذا في قصة غلمان حاطب حينما سرقوا ناقة المزني و فيه أعلم أنكم تستعملونهم حتى تجيعوهم .. الحديث وفيه أنه قال : كم تقوم ناقتك ؟ قال : بأربع مائة درهم ، فضاعفها إلى ثمانمائة درهم ثم غرمها حاطب - رضي الله عنه - (3) وهذا مثل هذا ، وهذا في الحقيقة ليس نسخاً للسنة أو القرآن، وهذا يدندن حوله بعض من في قلبه مرض ويأخذ مثل هذه الأمور وهو يعلمون في الحقيقة لكن لأمر يقع في نفوسهم وقلوبهم كما تقدم ، وقد وقع في كلام بعض أهل العلم المتقدمين ، وإن كان اختلف فيه، الطوفي - رحمه الله - وقع في شرح تلك التأويل في شرح الأربعين في حق قول على قول النبي - صلى الله عليه وسلم – ( لا ضرر ولا ضرار) (4) له فيه كلام طويل ،وكذلك في كلامه على الروضة في شرح الروضة شيء من هذا ، وإن كان كلامه محتمل وهو مبهم لم يبين إنه لا يريد بذلك يعني أن المصلحة تصادم النصوص لها أو أنها تنسخ النصوص ، لا لم يقل هذا ، إنما فسره بكلام وهو أن المصلحة تدل عليها النصوص ،وإن كان كلامه مجمل حتى اتهمه بعضهم في هذا - رحمه الله وعفا عنه - .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)أخرجه البخاري رقم ( 1584) ومسلم رقم ( 1333).
(2)أخرجه البخاري في "صحيحه" (2461) ، ومسلم (1727).
(3) عَنْ عُرْوَةَ , أَنَّ يَحْيَى بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ , أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ , قَالَ: تُوُفِّيَ حَاطِبٌ وَتَرَكَ أَعْبُدًا , مِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُهُ , مِنْ سِتَّةِ آلَافٍ يَعْمَلُونَ فِي مَالِ الْحَاطِبِ , يُشَمِّرَانِ فَأَرْسَلَ إِلَيَّ عُمَرُ ذَاتَ يَوْمٍ ظُهْرًا , وَهُمْ عِنْدَهُ , فَقَالَ: هَؤُلَاءِ أَعْبُدُكَ سَرَقُوا وَقَدَ وَجَبَ عَلَيْهِمْ مَا وَجَبَ عَلَى السَّارِقِ، وَانْتَحَرُوا نَاقَةً لِرَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ اعْتَرَفُوا بِهَا وَمَعَهُمُ الْمُزَنِيُّ «فَأَمَرَ عُمَرُ أَنْ تُقْطَعَ أَيْدِيهِمْ» ثُمَّ أَرْسَلَ وَرَاءَهُ , فَرَدَّهُ , ثُمَّ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ: «أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنِّي أَظُنُّ أَنَّكُمْ [ص:239] تَسْتَعْمِلُونَهُمْ , وَتُجِيعُونَهُمْ , حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَجِدُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَأَكَلَهُ , لَقَطَعْتُ أَيْدِيَهُمْ , وَلَكِنْ وَاللَّهُ إِذْ تَرَكْتُهُمْ لَأُغَرِّمَنَّكَ غَرَامَةُ تُوجِعُكَ» , ثُمَّ قَالَ لِلْمُزَنِيِّ: كَمْ ثَمَنُهَا؟ قَالَ: «كُنْتُ أَمْنَعُهَا مِنْ أَرْبَعِ مِائَةٍ» قَالَ: أَعْطِهِ ثَمَانِ مِائَةٍ . أخرجه عبد الرزاق في المصنف (18977).
(4) أخرجه ابن ماجة (2340) واحمد في المسند (2865) وقد صحح الحديث الحاكم 2/ 57. ومال إلى تصحيحه الحافظ العلائي كما نقله المناوي في "فيض القدير" 6/ 432، وقوّاه الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" 2/ 210، والحافظ ابن التركماني في "الجوهر النقي" 6/ 69 - 70، وحسنه ابن الصلاح كما نقله عنه الحافظ ابن رجب 2/ 211، وابن الملقن في "خلاصة البدر المنير" (2897) وسكت الحافظ الذهبي على تصحيح الحاكم للحديث. وحسنه الحافظ السيوطي في "الجامع الصغير".