يقول : الأفضل في رمضان تلاوة القرآن أم مراجعة المحفوظ وحفظ جديد؟
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ... وبعد ;
لا شك أن شهر رمضان جاءت الأدلة بالعناية فيه بالقرآن، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يدارسه جبرائيل القرآن كل عام مرة، ودارسه في العام الذي قُبض فيه مرتين عليه الصلاة والسلام(1)، لكن الصحيح من أقوال أهل العلم أنه لا بأس من مدارسة العلم في رمضان، نُقل عن بعض السلف وذكر ابن رجب وجماعه آثار في هذا الباب عن بعض السلف أنهم كانوا يقولون إن هذا الشهر يتفرغ فيه للقرآن، لكن كثير مما يُحكى لا يُذكر له أسانيد ولو ثبت وصح فعموم الأدلة لا تفرق في طلب العلم بين رمضان وغير رمضان لأنها عامة، وكون فعله يأتي أنه كان يقرأ القرآن فهذا الفعل لا يقيد المطلقات ولا يخصص العمومات لأنه مجرد فعل لكنه يدل على أنه يعتني في شهر رمضان بالقرآن أكثر من عنايته بغيره، مثل عشر ذي الحجة، جاءت الأدلة في فضلها وفضل العمل الصالح فيها(2)
ولا يُقال إن هذه الأيام أيضًا لا يُطلب فيها العلم لكن هي من مواسم الخير يعتني الإنسان فيها بأعمال الخير ويجتهد في طلب العلم، وكذلك شأن أيام الفضل لو قلنا هذا لقلنا إن ما ورد من فضلٍ خاص في بعض الأيام وبعض الأوقات إنه ينقطع للعبادة وينصرف عن العلم وهذا لم يقله أحدٌ من أهل العلم، فكذلك أيضًا في رمضان، ثم جاء في الأدلة ما يدل على خلاف هذا في الصحيحين من حديث عائشة أنه كان يدارسه القرآن(3) والمدارسة تكون بتفهم القرآن وتعلم القرآن، ثم أيضًا عند أهل العلم الراجح أن تلاوة القرآن بالتأمل والتدبر ومعرفة المعاني أفضل من كونه يسرد سردًا، وهذا هو المقصود كما نبه ابن القيم رحمه الله لأن تدبره وتفهمه هو المقصود وهو الغاية من قراءته فلا تُجعل الوسيلة غاية فلهذا كان يدارسه القرآن، ثم ثبت في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام كانت تأتيه صفية وكان يتحدث معها ويؤانسها،(4) فإذا كان المؤانسة للغير بالحديث بتطييب النفس لأجل إدخال السرور عليها وهو نفعٌ متعدي فكذلك إدخال السرور على النفس بنشر العلم وطلب العلم هو من هذا الباب، وقد دلت النصوص على فضل تفطير الصائم وهو نفعٌ متعدٍ بإطعام الطعام، وربما يدعو الإنسان من يفطر فيؤانسه بالحديث فإذا آنسه بالعلم ودارسه العلم فكان أولى وأعلى، فأقوى ما يكون في هذا الباب هو عموم الأدلة وإطلاقها ولا دليل على تخصيص عمومها، ولا تقييد الإطلاق وإن ذكر شيء من الأدلة يدل على هذا فإنها مجرد أفعال ومثل هذا لا يخصص، ثم جاء في الصحيحين من حديث عائشة أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا صلى الفجر دخل معتكفه (5)، فهذا يبين أنه عليه الصلاة والسلام في الليل غير النهار ليس كذلك يكون مع أصحابه عليه الصلاة والسلام فلذا لا بأس من طلب العلم مع العناية بالعبادة من قراءة القرآن وصلاة الليل ونحو ذلك فيجمع بين المصالح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يَعْرِضُ الْكِتَابَ عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي كُلِّ رَمَضَانَ ، فَإِذَا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي يَعْرِضُ فِيهَا مَا يَعْرِضُ أَصْبَحَ وَهُوَ أَجْوَدُ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ ، لَا يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَعْطَاهُ ، فَلَمَّا كَانَ فِي الشَّهْرِ الَّذِي هَلَكَ بَعْدَهُ عَرَضَ عَلَيْهِ عَرْضَتَيْنِ " .أخرجـه أحمد في المسند (2043). وأصله في الصحيحين في البخاري (1902) ومسلم (2309).
(2) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:" مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ. قَالُوا: وَلا الْجِهَادُ، قَالَ: وَلا الْجِهَادُ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ". صحيح البخاري رقم (969).
(3) عَنْ عَائِشَةَ , قَالَتْ : أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مِشْيَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ : " مَرْحَبًا بِابْنَتِي , ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ , ثُمَّ أَنَّهُ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا , فَبَكَتْ ، فَقُلْتُ لَهَا : اسْتَخَصَّكِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , بِحَدِيثِهِ , ثُمَّ تَبْكِينَ , ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا , فَضَحِكَتْ , فَقُلْتُ : مَا رَأَيْتُ الْيَوْمَ فَرَحًا أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ . فَسَأَلْتُهَا عَمَّا قَالَ , فَقَالَتْ : مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , حَتَّى إِذَا قُبِضَ سَأَلْتُهَا , فَقَالَتْ : " إِنَّهُ أَسَرَّ إِلَيَّ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بِالْقُرْآنِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً ، وَأَنَّهُ عَارَضَنِي بِهِ الْعَامَ مَرَّتَيْنِ وَلَا أَرَاهُ إِلَّا قَدْ حَضَرَ أَجَلِي ، وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لِحَاقًا بِي ، وَنِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ , فَبَكَيْتُ لِذَلِكَ ، ثُمَّ قَالَ : أَلَا تَرْضِينَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، أَوْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ . فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ ". أخرجـه البخاري رقـم ( 4434 ) ، ومسلم ( 2451).
(4) عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ ، قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَكِفًا ، فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلا ، فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ فَانْقَلَبْتُ فَقَامَ لِيَقْلِبَنِي ، وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ ، فَمَرَّ رَجُلانِ مِنَ الأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ " . فَقَالا : سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ :"إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا "أَوْ قَالَ :" شَيْئًا " أخرجـه البخاري رقـم ( 2035 ) ، ومسلم ( 2177).
(5) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ ، ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ "، أخرجـه البخاري رقـم ( 2034 ) ، ومسلم ( 1176).