يقول السائل: مرَّ عليَّ حديث بهذا اللفظ فما صحته؟ عن ابن مسعود رضي الله عنه إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال:" أيس الشيطان أن يعبد الناس الأصنام في جزيرة العرب "، وقد أخذ البعض منه دليلاً على عدم وقوع الشرك الأكبر بالأُمَّة بعد الرسول، فما حكم ذلك؟
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ... وبعد ;
الحديث المشهور في هذا الباب حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قال:«إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ » (1). حديث ابن مسعود هذا رواه الحميدي من طريق إبراهيم بن مسلم أبو إسحاق الهجري وهو ضعيف، لكن بلفظ يعني ربما يكون قريب من هذا، وبنحو حديث جابر وزاد فيه:" وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ مِنْكُمْ بِالْمُحَقَّرَاتِ"(2) يعني ما تحقرون من الأعمال. وهذا الحديث واضح معناه لا إشكال ولا دلالة فيه على هذا القول الباطل الذي يريدون به أن يصححوا والعياذ بالله الشرك وعبادة القبور ودعاء القبور وأنَّ الشرك لا يقع في هذه الأُمَّة، هذا تكذيبٌ للنصوص الصحيحة الثابتة عن النبي عليه الصلاة والسلام في هذا، والواقع أيضاً في هذا من كثير ممن وقع في الشرك، بل هذا من العهود الأولى والصحابة رضي الله عنهم قاتلوا من قاتلوا رضي الله عنهم ممن وقع في شيء من الكفر والشرك، وأخبر عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح من إنه قال: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ، حَوْلَ ذِي الْخَلَصَةِ»(3)، وكذلك حديث عائشة:" لا تقوم الساعة حتى تعبد في أمتي الأوثان"،(4)، وجاء من حديث ثوبان في معناه(5)، وأحاديث أخرى في هذا الباب.
أمَّا هذا الحديث:" إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ "، وهذا فيه عنه عدة أجوبة:
الأول: أنه قد أيس وكونه أيس فإن يأس الشيطان ليس معصوم؛ لأنه يأس لما رأى ظهور الإسلام وظهور الدين فيأس أن يعبده المصلون، كما في قوله تعالى:( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) (6)، فهو إخبار عن يأسه حينما رأى ظهور الدين، وما حصل بعد ذلك من ترتيب الصحابة- رضي الله عنهم- للفتوحات وهذا واقع في عهد النبي- عليه الصلاة والسلام- ثم لم يزل الأمر يستمر على خير حتى حصل ما حصل في الأُمَّة، ووقع ما وقع مما أخبر به- عليه الصلاة والسلام-.
الجواب الثاني: أنه قال:" أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ " أنه هو الذي يأس أن يعبده المصلون، والمعنى أنه قد يقع منهم الشرك بعبادة غيره.
الجواب الثالث: أن هذا يراد به جميع الأُمَّة ولا يلزم من ذلك أن لا يقع لبعض الأُمَّة أن يعبده ولذا قال:" الْمُصَلُّونَ " وأشار بذكر الصلاة لأنها أهم العبادات البدنية، وعلى كل حال هذا خبر عن ما وقع في نفس الشيطان، فلا يترك ما أخبر به النبي- عليه الصلاة والسلام- من إخباره بوقوع الشرك وعبادة الأوثان في هذه الأُمَّة.
وقد جاء في حديث عقبة بن عامر في الصحيحين أنه- عليه الصلاة والسلام-قال: قال:" وإني واللهِ ما أخافُ عليكم أنْ تُشرِكوا بَعدي، ولكِنْ أخافُ عليكم أن تَنافَسوا فيها . (7) "
الجواب الأول: أنه خطاب للصحابة- رضي الله عنهم- الصحابة الذين خاطبهم، وأنه- عليه الصلاة والسلام- لا يخاف أن يقع فيهم الشرك لما عندهم من الإيمان والعلم والدين.
الجواب الثاني: أن المراد بذلك هو وقوع عموم الأُمَّة في الشرك، ولا ينفي أن يقع الشرك وعبادة الأوثان في بعض الأُمَّة كما وقع في كثير من الناس من هذه الأُمَّة في عبادة القبور كما هو واقع في بلاد المسلمين إلى يومنا هذا كما هو مشاهد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبَدُه الْمَصْلُونُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ "أخرجه مسلم (2813).
(2) أخرجه أبو القاسم بن بشران في الأمالي (1/254) عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ تُعْبَدَ الأَصْنَامُ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ ، وَلَكِنَّهُ سَيَرْضَى مِنْكُمْ بِالْمُحَقَّرَاتِ وَهُنَّ الْمُوبِقَاتُ ، فَاتَّقُوا الْمَظَالِمَ مَا اسْتَطَعْتُمْ .. الحديث، وجاء من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ ، وَلَكِنْ قَدْ رَضِيَ مِنْكُمْ بِالْمُحَقَّرَاتِ "اخرجه أحمد في المسند (8592) ، والبزار مع كشف الأستار (2847) وقَالَ الْبَزَّارُ : قَدْ رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الفزاري هَكَذَا، وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنِ الأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , أَوْ أَبِي سَعِيدٍ أهـ.
(3) أخرجه البخاري رقم (7116) ومسلم رقم (157).
(4) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى".
أخرجه البخاري: الجهاد والسير (2942) والمغازي (4210) , ومسلم: فضائل الصحابة (2406).
(5) حديث ثَوْبَانَ أصله في مسلم في كتاب الإمارة (1920) بدون هذه الزيادة: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ ، وَحَتَّى يَعْبُدُوا الْأَوْثَانَ " وأخرجه بهذه الزيادة أبو داود (4252) والترمذي (2229) وابن ماجه (3952) ، قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ(2219). وفي رواية " لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان" مسند الإمام أحمد (5/278), وأبو داود (4252) .
(6) سورة المائدة الآية (3).
(7) أخرجه البخاري رقم (4042) ومسلم رقم (2299).