من كان في المسجد وخرج للوضوء, فهل عليه إذا عاد للمسجد صلاة ركعتين تحية المسجد سواء في وقت نهي أو غيره.
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ... وبعد ;
من كان في المسجد وخرج للوضوء وعاد, فالسنة أن يُصلي ركعتين؛ لأن هناك صلاة سنة الوضوء, وفيه أيضًا صلاة تحية المسجد، وهل يفعل هذا لو تكرر؟ هذا محتمل قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخَلَ أحدُكم المسجدَ، فلا يجلسْ حتى يركعَ ركعتينِ»(1), وهذه الجملة الشرطية أو الأمر المعلق على هذا الشرط, هل يقتضي التكرار؟ ظاهر كلام الأصولين أن المعلق على شرط مثل المعلق بعلة,(2) فيُشرع تكراره خلاف الأمر المطلق فإنه يُكتفى بحصوله مرة واحدة.
أما الأمر المعلق على شيء سواء كان تعليقه على علة أو على شرط فالأظهر عندهم أنه يتكرر, أما الأمر المعلق على علة فيوجد بوجود علته، وهكذا سائر العبادات الأخرى مثل تعليق رمضان بالصوم, تعليق الصلاة بدخول وقتها, وهكذا الوضوء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}((3)لكن يظهر والله أعلم أن يُقال: إن الشيء الذي يتكرر كثيرًا وتحصل المشقة به ربما يُخفف فيه, وهذه قاعدة الشريعة في بعض الأمور التي تتكرر ويَشُق يعني معاناتها, ويحصلُ فيها شيء من الحرج لو تكرر دخوله وطلوعه, ودخوله وخروجه, فهذا يختلف.فإن كان خروجه مثلًا عند باب المسجد ثم يدخل فهذا لا يظهر أنه يُقال له أنه يتأكد في حقه, وذلك أنه لم يُفارق عند باب المسجد، أما لو فارق المسجد مثلًا ثم رجع فهذا الأظهر أنه يُصلي تحية المسجد مرة أخرى إلا من كان ملازمًا للمسجد، مثل: لو ساكن في المسجد, أو عامل المسجد, وكذلك لو كان إنسان يطلب العلم وهو في جميع اليوم أو هذا الزمن في المسجد فيكثر خروجه ودخوله لحاجاته, فإن صلى فلا بأس, وإن ترك لأجل وجود الحرج والمشقة فيؤجر بنيته كما تقدم. ثم في قوله سبحانه وتعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}(4), القاعدة: أن الأمر معلق على شرط أنه يتكرر بتكرره، مثل التحية أنت لو سلمت على إنسان ثم لقيته مرةً أخرى, وإذا حياك بتحية فإنك تحييه, وإذا لقيته تحييه وإذا لقيك يحييك, ولو كان اللقاء عن قرب. ولهذا ثبت في الحديث الصحيح أن الصحابة رضي الله عنهم إذا كانوا في طريق ثم فصلت بينهم شجرة أو جدار فالتقوا سلم بعضهم على بعض, (5) وهذا فاصل يسير وأخذوا بالأمر المعلق في قوله{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}(6)
وأنه يُشرع لمن لقي أخاه أنه يحييه وكذلك أخذوا بقوله صلى الله عليه وسلم:«إذا لقيتَهُ فَسلِّمْ علَيهِ»(7), فصل بينهم فاصل ثم لقي فيسلم عليه, ويمكن أن يُقال فرقٌ بين التحية القولية التي مؤنتها يسيرة, وبين التحية الفعلية للصلاة التي مؤنتها أكثر وأطول فيخفف فيها, ثم التحية التي لأخيك تتعلق به, وربما ويكون فيها من المصلحة والمؤانسة الشيء الكثير بخلاف تحية المسجد, فهي حقٌ في دخولك للمسجد ولما كان لها مئونة وتطول, ولا مشقة فيها؛ وليست كالتحية القولية التي هي شأنها يسير، ثم اعتبر هذا بمسائل مثل ما ذكر العلماء مثلًا في الصوم والصلاة, أيضًا في باب البر لو أن رجلًا أو امرأةً أمره والداه أن يُفطِر معهم, فإن السنة أن يُفطِر ولا يصوم, كما قال الحسن رحمه الله لما سُئل عن إنسان يصوم ووالده يحب منه أن يُفطر، فقال: يفطر وله أجر البر وأجر الصوم، ولو أنه أمره أبوه أن يترك الراتبة فإنه لا يُطيعه, وذلك أن أمره بالفطر له في غرض وحاجه مؤانسته, وأن يشاركه الطعام, ويأكل معه هذه مصلحة, أما نهيه عن السنة الراتبة فهذا لا مصلحة في ذلك فنهيه عنه مكابرة, ووقتها يسير لا يُمكن أن يشغله عنه، فالصوم فيه طول من جهة أنه في يوم كامل وكذلك معلوم أن الإنسان يؤانس من يشاركه الطعام وخاصة إذا كان هذا من الوالدين, فكذلك أيضًا في باب التحية الصلاة ركعتين, والتحية القولية فإن بينهما فرقًا، وإن كان الأصل هو مشروعية التحية كلما دخل؛ لأنه أمرٌ معلقٌ بهذا الشرط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (444) ، و مسلم (1163).
(2) الأمر المعلق على شرط جارٍ مجرى الأمرِ المطلق عند الحنابلة. انظر "العدة"( 1/ 275)، و "التمهيد"( 1/ 204)، و"المسوَّدة" ص (23)، و "شرح الكوكب المنير"( 3/ 204). وهو مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني، انظر "البحر المحيط"( 2/ 391).و ذكره أبو إسحاق الشيرازى عن بعض الشافعية، انظر: "التبصرة": ص (47). وهو الأصح والمعتمدُ عند الشافعية، وهو أن الأمرَ المعلق على شرط أو صفة لا يقتضي التكرار، إذا كانت الصفة أو الشرط لم تثبت كونها علةً للفعل المأمور به، فإذا ثبت كونها علةً، فإنها تقتضي التكرار إذ ذاك. انظر "التبصرة" ص (47)، و "المستصفى" (2/ 8)، و"البحر المحيط" (2/ 390)، و" الِإحكام " للآمدي (2/ 236) وللفخر الرازي رأي ثالث، وهو أن الأمرَ المعلق على شرطٍ أو صفة، لا يفيد التكرار من جهة اللفظ، وإنما يفيده من جهة القياس، لان ترتب الحكم على الوصف يشعر بعليته. "المحصول"( 2/ 107).
(3) سورة المائدة. آية 6.
(4) سورة النساء. آية 86.
(5)عن أنس بن مالك رضي الله عنه" أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يكونون فتستقبلهم الشجرة، فتنطلق طائفة منهم عن يمينها، وطائفة عن شمالها، فإذا التقوا سلم بعضهم على بعض " أخرجه البخاري في الأدب المفرد (133) وانظر السلسلة الصحيحة للألباني رقم (186).
(6) سورة النساء. آية 86.
(7)عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ " ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا هُنَّ ؟ قَالَ : " إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْهُ ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ ، وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ "أخرجه البخاري (1240) ، و مسلم (2163).