ما حكم الدعاء بعد ختم القرآن خارج الصلاة أو في الصلاة؟
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ... وبعد ;
الدعاء بعد ختم القرآن خارج الصلاة ثبت عن جمع من السلف رضي الله عنهم, ومن أشهر وأصح الأخبار في هذا ما رواه الدارمي في مسنده (1) بإسنادٍ صحيح, وكذلك رواه الفريابي وأبو عبيد القاسم بن سلام كلاهما في فضائل القرآن؛ أن أنس رضي الله عنه كان إذا ختم القرآن جمع أهله وأولاده ودعا، وكذلك ثبت عن مُجاهد رحمه الله, وعبدة بن أبي لبابة الأسدي وهما تابعيان جليلان، ومجاهد بن جبر إمامٌ مشهور مفسرٌ كبير, وروى عنه الدارمي من طريق الحكم ابن عتيبة: أنه كان إذا ختم القرآن هو وجمعٌ من أصحابه أرسل إلى بعض أصحابه, وأرسل إلى الحكم بن عتيبة، وقال: إنا نريد أن ندعوا، وإنه قد بلغنا أن عند ختم القرآن دعوة مستجابة. (2) ورواه ابن أبي شيبة, وزاد عبدة مع مجاهد؛ عبدة بن أبي لبابة الأسدي وأنهما كانا يرسلان بعض أصحابهما، فيجتمعون ويذكرون أن عند ختم القرآن دعوة مستجابة والأثران إسنادهما صحيحان عند الدارمي وعند ابن أبي شيبة, (3) وهو أشهر الآثار في الباب
وروى الطبراني عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أنه قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم عند كل ختمة دعوة مستجابة(4) وهذا الحديث لا يصح, وكذلك سائر الأخبار الأخرى التي وردت في هذا الباب كلها إما ضعيفٌ جدًا أو روى بعضها أبو نعيم وغيره. فالدعاء عند ختم القرآن خارج الصلاة مأثور عن جمع من السلف من الصحابة والتابعين, وأيضًا نص الدعاء عند القرآن، وقراءة القرآن مشروع ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء في الصلاة أثناء قراءة القرآن, كما أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا مر بآية فيها دعاء سأل(5)، فيها ذكر الجنة سأل الله الجنة، فيها ذكر النار تعوذ بالله من النار, وكذلك إذا ختم القرآن فإنه يسأل ربه سبحانه وتعالى, وذلك أن السؤال إما دعاء مسألة أو دعاء عبادة، فهذا فيما يظهر لا بأس به, وهذا في الحقيقة من مدارسة القرآن, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدارسه جبرائيل عليه الصلاة والسلام القرآن(6). لكن فيما يظهر لا يكون على وجه اجتماع مقصود يرتب له, فهذا لم يثبت فيه شيءٌ يمكن أن يكون حجة, لكن لو كان وافق ختم القرآن فكان عنده بعض أصحابه, مثل الرجل يختم القرآن وعنده أولاده؛ فيدعوهم وهذا ليس فيه ترتيب لقاء ولا اجتماع إلا ما جاء عن مجاهد وعبدة بن أبي لبُّابة، وهذه المسألة يكون فيها اجتهادات في الحقيقة, ومن ذلك ما روى ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح قال: حدثني يزيد بن هارون عن العوام بن حوشب عن المسيب بن رافع الكاهلي الأسدي وهو تابعي كبير، وفيه أنه كان يختم القرآن في ثلاثٍ ويُصبح صائمًا من الليلة الثالثة؛(7)
المعنى أنه كان يختم في الشهر 10 مرات, ويصوم 10 أيام, وهذا من الاجتهاد الذي هو موضع نظر، وهو أن يُصبح صائمًا ويقصد الصوم مع الختم, أما إذا كان هو يصوم 10 أيام من كل شهر, فهذا لا بأس به وهذا يوافق صومه فلا بأس, أما قصد التخصيص الختمة بصوم يوم هذا مما يحتاج إلى دليل. لكن أهل العلم إذا اجتهدوا في مسألة كغيرهم، بل هم أولى بذلك أنه يُؤجر على هذا, وإن كان ما فعله ليس عليه دليل, فقد يكون سنده في ذلك إلى معنى والله أعلم. أما في الصلاة فلم يأتِ دليلٌ على ذلك, والنبي صلى الله عليه وسلم قد علَّمَ أصحابه وبيَّن لهم فضل ختم القرآن, ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلاثٍ»(8) , حديث صحيح رواه الثلاثة بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو. وكذلك علم عبد الله بن عمرو أيضًا كما في الصحيحين حيث قال: اقرأه في شهر إلى أن ذكر له سبع, وثلاث؛ والسبع في البخاري, (9) والثلاث أيضًا في البخاري(10). ولم يذكر له عند ختمه أنه يدعو, وهذا في الحقيقة أيضًا دعاءٌ خارج الصلاة, لكن ما تقدم فإنه فِعل أنس رضي الله عنه, وجاء عن بعض الصحابة, وجاء عن بعض التابعين, وينبني على مسألة حجية فعل الصحابي الذي ينتشر ولم يُذكر أو لم يُنقل من أنكره وهذه مسألة أصولية. وقد يُقال كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكره نصًا لعبد الله بن عمرو في الدعاء خارج الصلاة فقد دلت سنته على أن الدعاء في قراءة كمثل قراءة القرآن لا بأس به, والنبي صلى الله عليه وسلم فعله في صلاته, فخارج الصلاة من باب أولى، والقاعدة الشرعية أن الإنسان يتقدم بين يدي مسألته ودعائه الثناء عليه سبحانه وتعالى.
ولهذا أمر الداعي أن يُثني عليه سبحانه وتعالى, ومن أعظم الثناء هو الثناء عليه بكلامه, فالعبد حينما يتلو كلام الله تعالى ويختمه فيُناسب أن يسأل الله عز وجل لأنه يتوسل إليه بتلاوة كلامه سبحانه وتعالى،ولو أن إنسان كان يقرأ القرآن فقرأ البقرة ثم لما فرغ منها جعل يدعو ويسأل ربه لا يُمنع من ذلك, وهكذا مثلًا لو قرأ سورة آل عمران فدعا في أثنائها, أو بعد ختمها وهذا يجري في كل سورةٍ من سور القرآن, وعلى هذا لو ختم القرآن كله ثم دعا عند ختمه فالباب واحد فيما يظهر هل نقول أنه مشروعٌ أن تدعو حينما تقرأ القرآن؛ في أثناء القرآن, وبعد ختم القرآن؟ لا، بل يُقال من باب أولى عند ختم القرآن؛ لأن الدعاء يكون في ختام العبادة أقرب وأحرى. ولهذا الصلاة يكون دعاء المسألة في آخرها, والركعة يكون في آخرها «أقرب ما يكون الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ»(11) في آخر ركعة, فالأدعية جاءت في آخر العبادات؛ في آخر الركعة في السجود؛ في آخر كل ركعة, وفي آخر التشهد الأخير في الصلاة كما في حديث ابن مسعود :«ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ»(12), «ثُمَّ لْيَتَخَيَّرْ مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إلَيْهِ فَيَدْعُوَ بِهِ»(13) وهذا كله في الصحيحين، أما في الصلاة هذا هو موضع النظر, ولم يأتِ دليلٌ عليه, وأحد الأقوال لأهل العلم وهو الإمام أحمد رحمه الله أنه لا بأس به في التراويح, ومن أهل العلم كمالك رحمه الله لم ير ذلك. ولذا يرى بعض أهل العلم أن يُجمع بين القولين, وأن يكون دعاء ختم القرآن أثناء الوتر؛ بمعنى: أنه يختم في وتره ثم بعد الفراغ من القراءة قبل الركوع يَشرع في الدعاء في آخر صلاته ويحصل المقصود, ويكون موطن الدعاء, موطن القنوط, هذا أحرى وأقرب وهو موافق للسنة وهو الموافق لجميع الأقوال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قال الدارمي في السنن : (2 / 560) حديث رقم (3474) :حدثنا عفان حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا ثابت قال:" كان أنس رضي الله عنه إذا ختم القرآن جمع ولده وأهل بيته فدعا" وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (1 / 140) , والطبراني في معجمه الكبير (1/242) حديث رقم: (674) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد : (7 / 172): رواه الطبراني ورجاله ثقات. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2 / 368) قال: أخبرنا أبو نصر بن قتادة أنا أبو منصور النضروي ثنا أحمد بن نجدة ثنا سعيد بن منصور ثنا جعفر بن سليمان عن ثابت البناني عن أنس أنه كان إذا ختم القرآن جمع أهله. ثم قال : هذا هو الصحيح موقوف وقد روي من وجه آخر عن قتادة عن أنس مرفوعا وليس بشيء .
(2) أخرجه الدارمي في سننه (2/561) رقم (3482)، اتحاف المهرة للحافظ ابن حجر (19/396).
(3) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص 47)، قال حدثنا جرير عن منصور عن الحكم بن عتيبة: كان مجاهد وعبدة بن أبي (لبابة) وناس، يعرضون المصاحف، فلما كان اليوم الذي أرادوا أن يختموا فيه أرسلوا إلي وإلى سلمة، فقالوا: إنا كنا نعرض المصاحف فلما أردنا أن نختم أحببنا أن تشهدوا، لأنه كان يقال: إذا ختم القرآن نزلت الرحمة عند خاتمته، أو حضرت الرحمة عند خاتمته .
قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين. وأخرجه بالإسناد والمتن نفسيهما الحافظ بن أبي شيبة في كتاب فضائل القرآن (6/128) 129. والفريابي في فضائل القرآن (ص 189) من طريق الفضيل بن عياض عن منصور عن الحكم به. (رقم 88). وأخرجه عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه عن شعبة عن الحكم قال: أرسل إلي مجاهد فقال: إنا دعوناك، إنا أردنا أن نختم القرآن. فكان يقال: إن الدعاء مستجاب عند ختم القرآن، ثم دعا بدعوات رقم (90). وأخرجه عن إبراهيم بن العلاء الزبيدي عن بقية عن شعبة عن الحكم بن عتيبة، قال: بعث إلى مجاهد وعبدة بن أبي لبابة فأتيتهما فقالا: هل تدري لم بعثنا إليك؟! إنا أردنا أن نختم القرآن رقم 91. وأخرجه عن محمد بن المثنى عن محمد بن جعفر عن شعبة عن الحكم به رقم (92).
(4) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (18 / 259) قال: حدثنا الفضل بن هارون البغدادي ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم الترجماني ، حدثنا عبد الحميد بن سليمان ، عن أبي حازم عن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم..فذكره، وهذا إسناد ضعي فيه عبد الحميد بن سليمان الخزاعي وهو مجمع على تضعيفه، ضعفه أحمد وابن معين , والنسائي وغيرهم .وقال الحافظ في التقريب: ضعيف.
(5) أخرج مسلم (772) عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: (صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى فَقُلْتُ يَرْكَعُ بِهَا ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ). وأخرج أبو داود (873) والنسائي (1133) ( عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ قُمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً فَقَامَ فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ لَا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إِلَّا وَقَفَ فَسَأَلَ وَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إِلَّا وَقَفَ فَتَعَوَّذَ قَالَ ثُمَّ رَكَعَ بِقَدْرِ قِيَامِهِ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ ثُمَّ سَجَدَ بِقَدْرِ قِيَامِهِ ثُمَّ قَالَ فِي سُجُودِهِ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ بِآلِ عِمْرَانَ ثُمَّ قَرَأَ سُورَةً سُورَةً ).
(6) أخرجه البخاري رقم (4712).
(7) في مصنف ابن أبي شيبة (6/129) رقم (30041).
(8) أخرجه أبو داود (1394) والترمذي (2950) والنسائي (1347) وأحمد (6535) وقال الترمذي : حسن صحيح . وصححه النووي في التبيان (48).
(9) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ " ، قَالَ : قُلْتُ: إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً ، قَالَ : " فَاقْرَأْهُ فِي عِشْرِينَ لَيْلَةً "، قَالَ: قُلْتُ : إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً، قَال " فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ " .
أخرجه البخاري رقم )5054) ومسلم رقم )1159).
(10) لم أقف على رواية الثلاث في البخاري بل أخرجه أبو داود (1391) وقال الشيخ الألباني في صحيح أبي داود حسن صحيح.
(11) أخرجه مسلم رقم )5054).
(12) أخرجه مسلم رقم )614).
(13) أخرجه البخاري رقم )1202) ومسلم رقم )404).