ما صحة حديث " أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار "[1].
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ... وبعد ;
الحديث لا يصح ، رواه الدارمي من طريق عبيد الله بن أبي جعفر المصري -رحمه الله -وهو أمام إما من صغار التابعين أو كبار أتباع التابعين ، والحديث إما مرسل أو معضل ، والخبر لو ثبت فإن معناه أن الزجر لمن يجرؤ بلا علم، بل عن جهل وأن يتقدم للكلام بلا معرفة وهذا جرأة على القول ، (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ)[2]، وقال - سبحانه - : (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[3]، جعله رابع المحرمات ، تشديد للقول على الله بغير علم وكان الصحابة يتدافعونها كما روى ابن سعد في " الطبقات " من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى ، أنه كان السائل يأتي ويسأل أهل بدر المسألة ، فيسأل الأول فيدفعه إلى الثاني فيتدافعونها حتى ترجع إلى الأول كل منهم يرجو أن يكفيه صاحبه المسألة[4]، ويروى عن بعض السلف أنه قال : أن أحدكم يسأل في المسألة اليوم يسرع في الجواب إليها لو نزلت بعمر رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر[5] - رضي الله عنهم - ، وجاء عن السلف في هذا تشديد كثير في هذا، جاء بسند رواه ابن الصلاح - رحمه الله - من رواية عبد الله بن أحمد عن أبيه أحمد بن حنبل عن الشافعي عن مالك وهذا إسناد عزيز عظيم من رواية الأئمة الكبار الإمام الشافعي وأحمد ومالك وأن مالك قال: من ترك لا أدري أصيبت مقاتله[6]، وهذا جاء عن محمد بن عجلان وجماعة من أهل العلم وأن" لا أدري هي نصف الجواب ونصف العلم"[7] وأنه يجب أن ينتبه من يسأل في هذه المسائل وأن يتأنى ولا يخجل أن يقول : لا أدري ، لا ، بل عليه أن يستحضر حاله وأنه مسئول وأن ينظر في حاله قبل أن ينظر في حال السائل، ربما أنت تريد أن تصلح هذا السائل فتفسد حالك، فالسائل هذا فقد برئت ذمته لأنه سأل من يثق في علمه ودينه ويظن أنه تبرأ به الذمة، وهذا المسكين المغرور لم يبالِ همه أن يخلص السائل، ولذلك قال بعض السلف : إذا سألك السائل تكون همتك تخليص نفسك قبل أن تخلص السائل، السائل إن لم تجبه أجابه غيرك لكن أنت حينما تجيبه يذهب ويعمل بما أفتيته به وسألك عنه، ولهذا شدد السلف في هذا، وجاء رجل من بلاد بعيدة بلاد الأندلس للإمام مالك رحمه الله وسأله، جاءه قاصدًا مسافة ستة أشهر، سافر إلى مالك - رحمه الله - الإمام المشهور وسأله عن مسائل فقال لا أدري ، قال : يا أبا عبد الله جئتك من بلاد بعيدة، مشقة وتقول لا أدري ، قال ما معناه : ليس بمثل هذا تخدعني، ارجع إلى الناس وقل إن مالكاً قال لا يدري.
وذات يوم كان القاسم بن محمد بن أبي بكر - رحمه الله - جالساً بين أصحابه واجتمع الناس إليه وجعلوا يسألونه فجاء إنسان فسأله فقال: والله لا أحسن مسألتك، قال : أنت القاسم بن محمد بن أبي بكر تقول هذا لا تحسن مسألتي؟، قال: لا يغرنك طول لحيتي ولا جلوس الناس حولي فو الله لا أحسن مسألتك، فقال رجل من أصحابه: الزمها يا ابن أخي فو الله ما رأيتك يوماً آمن في مجلسك من مجلسك اليوم، يعني أن هذه الكلمة عظيمة حيث قلت للسائل ما قلت ثم عودته وأدبته وأدبت، من سمع أنك لا تدري ومن سأل الناس ولم يقل لا أدري سألوه حتى لا يدري[8]، لكن مع ذلك إذا ظهر الأمر وتبين فلا مانع وخاصة أنه يسأل مسألة وتحرى أو راجع فإن لم يظهر له شيء يتوقف ولا يستعجل في المسألة وإن ظهرت له فيرد ، ولذلك ذكروا أن سعيد بن المسيب - رحمه الله - كان جريئاً على الفتيا؛ ولهذا لما سئل بعضهم فقال له: استعجلت، قال لأصحابه : كم هذا وهذا، قال : ثلاث، قال: استعجلت، قال: أنا أعرف، قال: وأنا أعرف أيضاً. المعنى أن من ظهرت له مسألة وتبينت فلا مانع من أن يقدم وأن يظهرها وخاصة إذا كان في أمر يتعلق به الناس من أمر يجب بيانه فعليه أن يظهره وأن يبينه ولا يكتم العلم في مثل هذا الحال ، نعم.