ما هو الجمع بين قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ )[1]، وبين الحديث: " ومن أساءَ في الإسلامِ أُخذَ بالأولِ والآخرِ " [2]؟
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ... وبعد ;
نعم إذا أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر ، ورد هذا في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - ، وجاء أيضاً في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم : «إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ"[3] ، وجاء عن أبي سعيد الخدري عند البخاري معلقاً وصله النسائي بإسناد صحيح «إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا، وَمُحِيَتْ عَنْهُ كُلُّ سَيِّئَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا»[4] فهذا يبين وفي حديث ابن مسعود " ومن أساء أخذ بالأول والآخر "[5] ، وهذا وقع فيه اختلاف في معناه من جهة قوله تعالى:
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال : 38] مع قوله - عليه الصلاة والسلام - : " الإسلام يجب ما قبله "[6] ، فإذا كان الإسلام يجب ما قبله فكيف يؤاخذ إذا أساء في الإسلام ؟ هو أسلم الآن والإسلام يجب ما قبله فكيف تجعل الإساءة سبب للمحاسبة والمؤاخذة في الإسلام ؟. وهذا عنه جوابان عند أهل العلم ، الجواب الأول : هو أن من أسلم وأساء في الإسلام بمعنى الإساءة الكبرى، وهو أن يكون أسلم نفاقاً لو لم يسلم إسلاماً صحيحاً، فهو باقٍ على الكفر، فهذا أعظم الإساءة فعلى هذا لا ينفعه إسلامه لأنه أساء في الإسلام حيث أظهر الإسلام، ولم يكن إسلامه صحيحاً فهو باقٍ على ما هو عليه من كفر بل أقبح وأعظم؛ لأنه كفره كان ظاهراً ثم أظهر الإسلام فكان كفره مستتراً، فلذا لا ينفعه هذا الإسلام إلا أنه يحميه في الظاهر ويبقى في العصمة الظاهرة ما لم يظهر خلاف ذلك ، هذا معنى .أو أن المعنى أيضاً ممكن يقال له معنى ثان: أنه أسلم ثم ارتد بعد ذلك وهذا غاية الإساءة فلو أنه أسلم ثم ارتد بعد ذلك فكأنه لم يسلم ووجود الإسلام بين هذين الكفرين لا قيمة له، فهو حابط فعلى هذا يؤاخذ بما وقع منه قبل إسلامه .
وهناك قول آخر يمكن أن يكون ثالثاً إذا جعلنا هذين قولين وهو أن يسلم نفاقاً أو أن يسلم ثم يرتد ، القول الثالث : هو أن يكون أسلم وهو كان يشرب الخمر وكان يزني، وكان يأكل الربا مثلاً فأسلم، ونوى التوبة من الكفر، لكن لم يتب من شرب الخمر، أضمر في نفسه البقاء على شرب الخمر ، أو أنه أضمر في نفسه البقاء على أكل الربا أو الزنا في هذه الحالة نقول : إذا أضمر البقاء على مثل هذه الأمور فهو لم يتب منها، {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال : 38], وهذا واضح ، وهذا الوجه جيد في الحقيقة وقد يكون أجود من الوجوه التي قبله وهو أنه حينما أسلم فقد غفر له بإسلامه ما انتهى منه من ذنوب، وما لم ينته عنه فإنه يبقى ، (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ) , يعني إذا انتهى عن الكفر انتهى من المعاصي نوى التوبة وأخفى الإساءة فيغفر له مثل ذلك، لكن إذا أضمر في نفسه البقاء على الربا على شرب الخمر على الزنا في الحقيقة لم ينته، انتهى الكفر لكن لم ينتهِ من شعب الكفر فهذا يظهر أنه يحاسب على إساءته في الجاهلية؛ لأنه مستمر على الإساءة في الإسلام ، وهذه هي الإساءة، وعلى هذا يمكن أن تجعل الإساءة أنواع، إما إساءة بمعنى أنه أظهر النفاق فهذا لا ينفعه إسلامه،
الإساءة الثانية: أن يسلم ثم يرتد ففي هذه الحالة إسلامه بينهما لا قيمة له فيؤاخذ بما وقع منه في الجاهلية من كفر وغيره،
الحالة الثالثة: وهي أسهل من اللتين قبلهما وهو أن يضمر البقاء على المعصية هو أسلم إسلاماً صحيحاً من الكفر، لكنه لشدة تعلقه بالخمر أو الزنا أو الربا أضمر البقاء عليه فإنه لا يمحى عنه ذلك لعدم توبته، ولهذا ذكر العلماء باب الإسلام على شرط هل يصح ؟ لو إن إنسانًا أسلم، قال : أُسلم بشرط أن أبقى على شرب الخمر مثلاً، فإسلامه صحيح يقبل منه الإسلام وفي هذا أحاديث معروفة في هذا الباب من أسلم على شرط، لكن الفصل بين هذا هو إيراده مثل هذا وأن بعضهم ربما لشدة تعلقه ببعض المعاصي يبقى عليها ففيما يظهر والله أعلم أنه يؤاخذ بما يرتكب من كبائر وهذا القول هو الأقرب والأظهر ، نعم.